الأحد، 13 فبراير 2022

سياسات مكافحة التحرش الجنسي عبر الإنترنت

 سياسات مكافحة التحرش الجنسي عبر الإنترنت

هذه الورقة من إعداد كل من: فؤاد بنات، آلاء سلامة، تمار الطيبي، حمزة خضر،  نداء عوينة

مقدّمة

يعرف التحرش الجنسي عبر الإنترنت بمجموعة من السلوكيات التي تستخدم المحتوى الرقمي (الصور، ومقاطع الفيديو، والمشاركات، والرسائل، ... وغيرها) على مجموعة متنوعة من المنصات الخاصة أو العامة، والتي تجعل الشخص يشعر بالتهديد، أو الاستغلال، أو الإكراه، أو الإذلال، أو الانزعاج، أو التحيز الجنسي، أو التمييز ضده، ويمكن تصنيفه إلى أربعة سلوكيّات هي: المشاركة غير التوافقية للصور ومقاطع الفيديو الجنسية، الاستغلال والإكراه والتهديد، التنمر الجنسي، محاولة إنشاء تواصل جنسيّ غير مرغوب فيه.[1]

وأضحى التحرش الجنسي عبر الإنترنت أكثر انتشارًا في المجتمع الفلسطيني نتيجة التطور المتسارع في وسائل التواصل الاجتماعي، وأغلب ضحاياه من الإناث. وهذا ما أوضحه استطلاع الرأي لمناطق الضفة الغربية وقطاع غزة، الصادر عن المركز العربي لتطوير الإعلام المجتمعي-حملة بعنوان "العنف الجندري ضد النساء الفلسطينيات في الحيز الافتراضي"؛ إذ بلغت نسبة النساء اللواتي أفصحن عن تعرّضهن للتحرش عبر الإنترنت 55%، من ضمنهنّ 34% تلقّين صورًا إباحيّة غير مرحّب بها، و16% تلقّين رسائل إلكترونيّة فيها تحرّش جنسيّ، و5% منهنّ أفصحن عن تعرّضهن للتحرش عبر الإنترنت بحسب ما جاء في تقرير صدر العام 2018، وأنّ 33.33% من النساء اللواتي

تعرّضن للتحرّش عبر الإنترنت لا يعرفن المتحرّش، أو مرتكب فعل الابتزاز مسبقًا.[2] ولجأت 71% من النساء إلى عدم وضع صورهن الشخصية على وسائل التواصل الاجتماعي، لأنهن لا يشعرن بالأمان، و25% من النساء أغلقن حساباتهنّ على وسائل التواصل الاجتماعيّ نتيجة لتعرّضهن للتحرش.

وتظهر الأرقام الواردة أعلاه، أهمية وجود سياسات لمكافحة التحرش الجنسي عبر الإنترنت. وقد بذلت السلطة الفلسطينية جهودًا محدودة في مكافحته، ففي السابق أقرت السلطة الفلسطينية بوجود جرائم إلكترونية، ونددت بخطورتها، وضرورة اتّخاذ موقف صارم لمحاربتها؛ ففي العام 2013، أسست "وحدة مكافحة الجرائم الإلكترونية"، وفي العام 2016، تبنت النيابة العامة مهمة التصدي لهذه الجرائم، من خلال إنشاء "نيابة مكافحة الجرائم الإلكترونية" بقرار صادر عن النائب العام، وفي العام 2017، تم تخصيص أعضاء نيابة عامة متخصصين لمتابعة قضايا الجرائم الإلكترونية، وتبع كل تلك الجهود إقرار قانون بشأن مكافحة الجرائم الإلكترونية رقم (10) لسنة 2018.

لكن، على الرغم من وجود تلك السياسات الإيجابية لمكافحة الجرائم الإلكترونية، لا يزال هناك قصور عام فيما يتعلق بإقرار سياسات عامة لمكافحة الجرائم الإلكترونية، وبخاصة التحرش الجنسي عبر الإنترنت.

أهداف الورقة

الهدف العام:

اقتراح سياسات لمكافحة التحرش الجنسي عبر الإنترنت، وتشجيع الضحايا من النساء والفتيات على تقديم شكوى إلى الجهات المختصة.

الأهداف الخاصّة:

  • تقديم آليات لحماية النساء والفتيات من التحرش الجنسي عبر الإنترنت.
  • تعزيز المنظومة القانونية والقضائية لمكافحة التحرش الجنسي عبر الإنترنت.
  • توفير سياسات من شأنها ضمان الحماية والأمان والسرية والخصوصية في تقديم الشكوى وكسر حاجز الصمت.

المشكلة السياساتيّة

ارتفاع نسبة التحرش الجنسي عبر الإنترنت، وانخفاض عدد الضحايا اللواتي يلجأن إلى جهات الاختصاص لتقديم الشكاوى، في ظل غياب آليات قانونيّة ناجعة لحماية الضحايا وحماية خصوصيّتهن ومساءلة مرتكبي أفعال التحرّش الجنسي عبر الإنترنت، وغياب فعل حكوميّ ناجع هادف للحدّ من ارتفاع الظاهرة ومحاولة القضاء عليها.

وتبرز المشكلة، بشكل واضح، من خلال أسبابها الرئيسية الآتية:

أولًا: البنية القانونية

يعاني النظام القانوني الخاص بالعقوبات من الازدواجية لوجود قانون معمول به في الضفة من الحقبة الأردنية، وآخر انتدابي معمول به في القطاع، فمن جهة، تعدّ هذه القوانين غير عصرية ولا تتناسب مع الواقع الحالي، ومن جهة أخرى، فإن كلا القانونين لا يوفران تغطية قانونية لمكافحة التحرش الجنسي، ولا يحتويان لفظًا واضحًا صريحًا يدلل على جريمة التحرش، أو استخدام صريح للعبارة، وهذا نقص واضح في كليهما.

وفي ظل غياب قانون يجرم التحرش الجنسي، يتم التكييف القانوني للتحرش الجنسي على اعتبار أنه فعل منافٍ للحياء العام[3]، وفي الوقت نفسه، عالج مشروع قانون العقوبات الفلسطيني التحرش الجنسي، بشكل واضح، واعتبره جريمة، وفرض العقوبات اللازمة على مرتكبيه، وذلك بموجب نص المادة (463). وشملت المادة أي أقوال أو إشارة أو أفعال من شأنها المضايقة أو النيل من الكرامة أو رغبات غيره الجنسية، أو ممارسة أي ضغوطات لتشمل جميع أنواع الضغوط النفسية والاقتصادية والاجتماعية والوظيفية وغيرها. لكن، يشترط المشرع لتطبيق هذه المادة، وجود عنصري الإمعان والتكرار لتكييفه على أنه تحرش، ما قد يمنع الضحية من تحريك شكوى منذ بداية وقوع فعل التحرش، ويسمح للمتحرش بممارسة التحرش إذا كان التحرش للمرة الأولى. على الرغم من كل ما ذكر حول إيجابيات وسلبيات هذه المادة، فإن المسودة ما زالت طي الأدراج منذ العام 2010.[4]

في السياق ذاته، جاء في القرار بقانون رقم (10) لسنة 2018 بشأن الجرائم الإلكترونية، وبخاصة في المادة رقم (16)[5]، صور التحرش الجنسي، ولكنه لم يذكر صراحة أنها تتعلق بالتحرش الجنسي. ويعيب على هذه المادة عدم وضوحها، وعدم تناولها كافة صور التحرش عبر الإنترنت[6]، كما أن القانون لم يوضح تعريف الأعمال الإباحية وماهيتها.

ثانيًا: الثقافة المجتمعية

السلوكيات السلبية في العالم الافتراضي ما هي إلا امتداد للسلوكيات من العالم الواقعي، وعندما يشعر المتحرش بالراحة والأمان، وسهولة في انتحال الهوية، وصعوبة الكشف عنها، فإن ذلك يتيح له مساحة للقيام بأفعال لا يجرؤ على القيام بها على أرض الواقع، ونستدل من هذه السلوكيات على رغباته الكامنة، وتظهر تراجعًا في منظومة القيم والأخلاق، وتعد مؤشرًا للكبت الاجتماعي وتشييء النساء، والسلطة الأبوية، حيث ينشأ الولد أو البنت في بيئة خالية من الاتصال والتواصل، وعندما يلج العالم الافتراضي المنفتح على بعضه، تتشكل لديه صدمة اجتماعية وثقافية، ويفقد القدرة على إدارة العلاقات بشكل سليم.[7]

ولا تزال النساء والفتيات، أيضًا، يفضلن الصمت وعدم البوح لأفراد الأسرة، أو الجهات الرسمية المختصة عند تعرضهن للتحرش؛ خوفًا من ردة فعل أفراد الأسرة في حال معرفتهم بالأمر، لأن أصابع الاتهام ستشير إليها وتحملها المسؤولية بالدرجة الأولى، على اعتبار أن ذلك يسبب الفضيحة وتلويث سمعة العائلة، وشعور الضحايا بعدم الثقة وفقدان السرية والخصوصية في جهات إنفاذ القانون، والقناعة بأن الجاني لن يجد العقاب الرادع، كل ذلك يساهم في زيادة التحرش.[8]

ومن الأسباب التي تؤدي إلى زيادة التحرش الجنسي عبر الإنترنت، ضعف المعرفة الكافية لدى النساء والفتيات بكيفية استخدام التقنيات التكنولوجية بطريقة أكثر أمنًا؛ مثل كيفية تأمين حساباتهن وبياناتهن، والمعرفة بحقوقهن الرقمية،[9] وضعف الوعي المجتمعي بأشكال التحرش الجنسي عبر الإنترنت، وغياب الاحتضان الأسري للأبناء.

ثالثًا: السياسات الحكومية

تعد وزارة شؤون المرأة لاعبًا أساسيًا في وضع السياسات العامة والإستراتيجيات الوطنية التي تهدف إلى تخفيض نسبة العنف الموجّه ضد المرأة الفلسطينية بأشكاله كافة، فمن خلال الإستراتيجيات التي تتبناها وزارة المرأة، يمكن معرفة أولوياتها فيما يخص العنف.

وبالرجوع إلى إستراتيجية "تعزيز العدالة والمساواة بين الجنسين العابرة للقطاعات (2017-2022)" التي نصّت على أن القطاع الاجتماعي هو من القضايا ذات الأولوية، التي ستعمل الإستراتيجية على معالجتها. وإذ إنّ العنف يُعدّ من القضايا الاجتماعية، فإن هذه الإستراتيجية أقرت بوجود فجوات مرتبطة بالعنف، وأن المرأة لا تزال تتعرض لجميع أشكال العنف، وذكرت أشكال العنف التي تعتبر أولوية لوزارة المرأة، وهي العنف الجسدي، والنفسي، والاقتصادي، والاجتماعي، والجنسي.[10]

ومع أن الإستراتيجية تعتبر العنف الجنسي هو من القضايا ذات الأولوية[11]، فإنّه يُفتَرض، في ظل تسارع تطور وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، وزيادة استخدام وسائل التواصل والأجهزة الذكية والإنترنت، أن يتم تخصيص وإعطاء أولوية في الإستراتيجية، أيضًا، للعنف والابتزاز الجنسي الإلكتروني.[12] كما أن الخطة الإستراتيجية لمناهضة العنف ضد النساء للأعوام (2011-2019) الصادرة عن وزارة المرأة انتهت صلاحيتها، ولم يتم تحديث إستراتيجية جديدة بعد ذلك.

أما بالنسبة لوزارة العدل، التي تهدف إلى بناء قطاع عدالة متكامل الأدوار، يحقق العدل وسيادة القانون، ولتحقيق ذلك، أقرت إستراتيجيتها الوطنية (2017-202)، واعترفت في الإستراتيجية بغياب سياسة وطنية للمساعدة القانونية، وضعف في تقديم خدمات العدالة، لذلك دعت إلى تبني إستراتيجية وطنية للمساعدة القانونية، وبخاصة مساعدة النساء المعنّفات، ومواءمة هذه التدخلات مع قطاع الأمن والعدالة والحماية المجتمعية.[13] وعلى الرغم من نجاعة هذه الإستراتيجية، وتمكين النساء المتحرش بهن من حصولهن على المساعدة القانونية، ما يشكل لهن مصدر قوة للوصول لحقهن القانوني في الحماية والدفاع عن حقوقهن والوصول للعدالة، فإن هذه الإستراتيجية، لم ترَ النور حتى تاريخ كتابة هذه الورقة.

في سياق آخر، هناك غياب لسياسات فلسطينية مشتركة مع دول العالم قائمة على التنسيق والتنظيم المشترك لمكافحة التحرش الجنسي عبر الإنترنت، باعتباره جريمة عابرة للحدود قد ينشأ في أي مكان في العالم،[14] وليس من السهل فيها ملاحقة المتحرشين إذا كانوا خارج حدود الدولة.

كذلك، هناك غياب، أيضًا، لسياسة وطنية للمتابعة والرقابة على تطبيق قانون رقم (3) لسنة 1996 بشأن الاتصالات السلكية واللاسلكية، الذي يمنع الاتجار بشرائح السيلكوم الإسرائيلية؛ كونها غير مرخصة[15]، إذ تزداد نسبة التحرش باستخدام شرائح الاتصالات الإسرائيلية، لشعور المتحرش بالأمان، وإفلاته من المساءلة والعقاب؛ كون حملة هذه الشرائح لا يخضعون للقوانين الفلسطينية. ويبلغ عدد هذه الشرائح في الأراضي الفلسطينية 600 ألف، وهناك ثماني شبكات إسرائيلية تعمل في الأراضي الفلسطينية.[16]

رابعًا: بنية المجتمع المدني

لا تتمتع مؤسسات المجتمع المدني بالجرأة الكافية لطرح إشكالية التحرش الجنسي بمفهومه المجرد، ولا تزال تعمل على تجميل الموضوع وطرحه في إطار الابتزاز الإلكتروني، داعية إلى تقديم المساعدة النفسية والاجتماعية والقانونية ضمن هذا الإطار،[17] ولهذا، فإنها لا تسلط الضوء على التحرش الجنسي عبر الإنترنت بشكل متخصص.

في سياق آخر، يوجد شح في برامج المجتمع المدني المتعلقة ببناء قدرات ومهارات النساء والفتيات لتحقيق استخدام أكثر أمنًا بالتقنيات التكنولوجية لحماية أنفسهن من أي عنف رقمي. ويبرز ضعف في دور المجتمع المدني في رصد البلاغات/الشكاوى المتعلقة بحالات التحرش الجنسي عبر الإنترنت، لكن مؤخرًا، أطلق مركز حملة، منصة "حر"، كأول منصة إلكترونية فلسطينية تعمل على رصد الانتهاكات الرقمية التي يأتي من ضمنها التحرش الجنسي عبر الإنترنت.[18]

وأيضًا، لاحظنا خلال إعداد الورقة ضعفًا واضحًا جدًا في أنشطة ودراسات ومبادرات متخصصة مدعومة من المجتمع المدني حول التحرش الجنسي عبر الإنترنت، ويدلل على ذلك البحث الصادر عن مركز حملة لسنة 2018 الذي يعتبر أول بحث شامل من نوعه محليًا وإقليميًا يتناول هذا الموضوع، والمؤشرات الواردة فيه، تم الاستناد إليها في إعداد هذه الورقة.[19]

ويعد الإعلام واحدًا من مكونات المجتمع المدني، ولاعبًا أساسيًا في رفع الوعي المجتمعي وتوجيه الضحايا في الحوادث المماثلة، إلا أن الواقع يشهد ضعف الإعلام الفلسطيني في إبراز قضية التحرش الجنسي عبر الإنترنت، والآليات الحديثة للحماية منه، ومن المخاطر الصحية والنفسية والأخلاقية والتربوية التي تترتب على حدوثه، أكان ذلك بالنسبة للمتحرش أو المتحرش بهن، أو للمجتمع كله.

البدائل السياساتية

تتناول الورقة البدائل التي يمكن من خلالها تحقيق الأهداف المنشودة، ويتطلب ذلك تحديد معايير من شأنها قياس قدرة البدائل المطروحة على تحقيق الأهداف، وهي:

المقبولية:  تراعي البدائل المطروحة قبولًا لدى القوى الرسمية وغير الرسمية التي تؤثر في إقرار السياسات.

الإمكانية: تراعي البدائل المطروحة القدرة على تطبيقها وفق الإمكانيات المتوفرة من الناحية المادية والسياسية والقانونية والاجتماعية.

الفاعلية: تراعي البدائل المطروحة القدرة على تحقيق الهدف في الحد من التحرش الجنسي عبر الإنترنت.

العدالة:  تراعي البدائل المطروحة تحقيق العدالة؛ سواء القانونية والمجتمعية، للضحايا التي تعاني من التحرش.

البديل الأول: بناء إستراتيجية وطنية لمكافحة العنف الرقمي

يقع هذا البديل ضمن واجبات السلطة الوطنية الفلسطينية الموقعة على عدد من الاتفاقيات الملزمة لها تجاه حقوق الإنسان وحقوق المرأة والطفل، لذلك من المهم وضع إستراتيجية شاملة وجامعة تشمل العمل مع مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الحكومية، وتتضمن هذه الإستراتيجية محاور عدة، منها:

  • تعزيز آليات الحماية من العنف الرقمي الذي يتضمن التحرش عبر الإنترنت.
  • تعزيز الإطار القانوني والآليات المؤسساتية للحماية من العنف الرقمي، بشكل يضمن توفير الحماية الاجتماعية والدعم الاجتماعي.
  • تعزيز السلطة القضائية في التعامل مع قضايا التحرش الجنسي عبر الإنترنت.
  • تغيير التوجهات المجتمعية بشأن التحرش الجنسي تجاه النساء والفتيات، من خلال تعزيز الوقاية من التحرش الجنسي عبر الإنترنت في التوجه الإستراتيجي للمؤسسات العاملة في مجال الحماية من العنف.
  • تنظيم العمل بين المؤسسات العاملة على مناهضة العنف، وتبادل القضايا فيما يتعلق بالتحرش الجنسي عبر الإنترنت في الإعلام بشكل ممنهج ومنظم.

محاكمة البديل الأول:

المقبولية: إن وجود إستراتيجية وطنية لمكافحة هذه الجرائم يلاقى دعمًا كبيرًا من صانع القرار ومؤسسات المجتمع المدني، ويتقاطع، بشكل مباشر، مع اهتمامات مؤسسات المجتمع المدني والوزارات المعنية، التي تعمل على حماية الحقوق والحريات، والحد من العنف تجاه النساء والفتيات، وبناء قاعدة سليمة وصحية تحمى أفراد المجتمع، وتساهم في تعزيز الأمان والتماسك المجتمعي، وتغير جزءًا كبيرًا من المفاهيم الخاطئة السائدة.

الإمكانية: هذا البديل يمكن تحقيقه، وبخاصة أن العنف ضد النساء، بمختلف أشكاله، محور اهتمام العديد من الوزارات، وتحديدًا وزارة شؤون المرأة، وكذلك مؤسسات المجتمع المدني التي تعمل على قضايا العنف تجاه النساء لإحداث تغيير في التوجهات، وفي المفاهيم الخاطئة، وبناء مجتمع سليم قادر على مواجهة هذه التحديات.

الفاعلية: يحقق البديل الفاعلية الأكبر، لأنه يعمل من منطلقات أصعدة عدة، ومن الممكن أن يشمل هذا البديل العمل على البديلين الثاني والثالث؛ كونه أكثر عمومية وشمولية، ويحقق الهدف، وهو مكافحة التحرش، وتشجيع النساء على كسر حاجز الصمت.

العدالة: يحقق هذا البديل العدالة للنساء والفتيات اللواتي قد يتعرضن أو تعرضن للتحرش، لأنه يوفر حماية ووقاية للمتحرش بهن، والمساءلة للمتحرش، ويوفر الردع العام، ويعمل على تغيير النظرة النمطية للتحرش الجنسي عبر الإنترنت.

البديل الثاني: تعزيز القيم المجتمعية بالشراكة مع مؤسسات المجتمع المدني

علاوة على الجهود الحكومية، تحتاج مكافحة التحرش الجنسي عبر الإنترنت إلى جهود مؤسسات المجتمع المدني، لذلك يتطلب من مؤسسات المجتمع المدني تأسيس شبكة تهدف إلى بناء نظام إنذار مبكر لتعزيز منظومة القيم المجتمعية، تتلاءم مع دخول التكنولوجيا الجديدة، وتعمل على:

  • تنظيم حملات توعوية واسعة للحماية من التحرش الجنسي عبر الإنترنت كشكل من أشكال العنف المجتمعي.
  • التربية على اعتبار ممارسة العنف قيمة اجتماعية منبوذة، واعتبارها اعتداء على النظام العام.
  • إطلاق برامج خاصة بالتربية على الحقوق الإنسانية للمرأة، ومناهضة العنف.
  • تثقيف جنسي كامل ومتلائم مع جميع الأعمار، للحد من تعرض الأفراد للصدمة عند تعرضهم للانفتاح على العالم عبر الإنترنت.

محاكمة البديل الثاني:

المقبولية: يحظى هذا البديل بمقبولية لدى مؤسسات المجتمع المدني، لذا يمكن قبوله وتبنيه، وبخاصة أن كثيرًا من مؤسسات المجتمع المدني الفلسطينية على اختلاف اهتماماتها تعمل على التربية المجتمعية.

الإمكانية: يمكن تطبيق هذا البديل بكل سهولة في كل من الضفة وغزة.

الفاعلية: يحقق هذا البديل الهدف الذي نسعى إليه وهو الحد من التحرش الجنسي، لأنه يعمل على معالجة الأسباب الجذرية المتعلقة بالتنشئة والقيم.

العدالة:  يوفر هذا البديل العدالة في حال تطبيقه، لأنه يعمل مع جميع فئات المجتمع.

البديل الثالث: بناء منظومة قانونية موحدة قوية رادعة لجرائم التحرش الجنسي

يفترض هذا البديل وجود بيئة قانونية قوية وفاعلة بين الضفة الغربية وقطاع غزة تنسجم مع المعايير الدولية، وبخاصة العهد الدولي الخاص بحقوق الإنسان لسنة 1948، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لسنة 1966، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لسنة 1996، واتفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة لسنة1981، ويتم تحقيق ذلك كله، من خلال:

  • إنهاء الانقسام السياسي، وإجراء انتخابات تشريعية وتوحيد المنظومة التشريعية والتنفيذية والقضائية.
  • إقرار مشروع قانون العقوبات الموحد لسنة 2010 الذي استحدث نصوصًا لتجريم التحرش الجنسي، بما يشمل إعادة تعريفه، وحذف عنصري الإمعان والتكرار كشرط للمساءلة، وتجريم فعل التحرش الجنسي، إلى جانب تغليظ العقوبة تجاه المرتكبين، بغض النظر عن وضعهم أو مكانهم الوظيفي أو الاجتماعي، وعدم السماح للتدخلات العشائرية والعائلية بتبسيط الحلول بما يشجع على تكرار الجريمة.
  • توحيد القرار بقانون رقم (10) لسنة 2018 بشأن الجرائم الإلكترونية، وتضمينه تعريفًا واضحًا لجريمة التحرش الجنسي عبر الإنترنت، وبشكل يشمل جميع صوره.
  • إنشاء محكمة متخصصة للنظر في الشكاوى الخاصة بالجرائم الإلكترونية التي تتضمن التحرش الجنسي عبر الإنترنت، ومعالجة إشكالية انخفاض نسبة الإبلاغ عن تلك الجرائم من قبل النساء والفتيات لدى الجهات المعنية بسبب الخوف، أو عدم وجود مساحة آمنة وخصوصية وسرية في إجراءات التبليغ والمحاكمة، إلى جانب سرعة الفصل والتقاضي.

محاكمة البديل الثالث:

المقبولية: على الرغم من وجود ضغط مجتمعي لإقرار قانون العقوبات وتعديل القرار بقانون بشأن مكافحة الجرائم الإلكترونية، فإن إقرار مشروع قانون عقوبات موحد، وإعادة النظر في القرار بقانون رقم (10) لسنة 2018 وتوحيده، يحظى بمقبولية ضعيفة لدى صانع القرار في الضفة وغزة، وبخاصة في الوقت الراهن، لأن العمل على هذا البديل يتطلب إتمام المصالحة الوطنية، وإجراء انتخابات مجلس تشريعي، فيما جميع المؤشرات تدلل على عدم إمكانية إجراء انتخابات تشريعية، وبخاصة بعد فشل الجولة الأخيرة لحوارات المصالحة.

الإمكانية: تبدو إمكانية بناء منظومة قانونية موحدة ضعيفة في الوقت الحالي، في ظل المشاحنات المستمرة بين حركتي الانقسام، وبخاصة بسبب الخلاف الحاصل على أموال إعادة الإعمار، وانسداد الأفق في حوار المصالحة، ورفض الحكومة في رام الله إجراء انتخابات تشريعية دون القدس.

الفاعلية: يحقق البديل، في حال تطبيقه، نوعًا من الردع المجتمعي العام، والردع الخاص، ما يحد من التحرش الجنسي عبر الإنترنت.

العدالة: يحقق البديل عدالة لضحايا التحرش الجنسي عبر الإنترنت، وجبر الضرر عنها، بما يتوافق مع الفعل المرتكب الذي يساهم في حمايتها، ويعزز الأمان بوجود قانون رادع يطال مرتكبي تلك الأفعال.

المفاضلة بين البدائل

من الواضح أن البدائل الثلاثة مهمة ومطلوبة لإنجاز نقلة نوعية في السياسات العامة لمكافحة التحرش الجنسي عبر الإنترنت، لكن توصي الورقة باعتماد البديل الأول لأنه الأكثر قابلية للتنفيذ باعتباره أكثر شمولية، ومقبولية، وإمكانية للتطبيق، والأكثر تحقيقًا للعدالة للفئات المتضررة، وبخاصة في الوقت الراهن، مع عدم تجاهل أهمية العمل على البديلين الآخرين بعد إنجاز البديل الأول كخطوة أولى في إطار إقرار سياسات عامة بهذا الشأن.

الهوامش

** ما يرد في هذه الورقة من آراء تعبر عن رأي معدّيها، ولا تعكس بالضرورة موقف مركز مسارات.

[1] Childnet, Defining Online Sexual Harassment: bit.ly/30a2EMl

[2] شهرزاد عودة، العنف الجندري ضد الفلسطينيات في الحيز الافتراضي، المركز العربي لتطوير الإعلام المجتمعي (حملة)، حيفا، 2018، ص 34.

[3] المصدر السابق.

[4] فاطمة دعنا، العدالة الاجتماعية في قانون العقوبات والتشريعات الفلسطينية (دراسة قانونية نقدية تحليلية)، مركز بيسان للبحوث والإنماء، رام الله، 2019، ص 101.

[5] "1. كل من أرسل عن طريق الشبكة الإلكترونية، أو إحدى وسائل تكنولوجيا المعلومات، قصدًا، كل ما هو مسموع أو مقروء أو مرئي، يتضمن أعمالًا إباحية لمن هو فوق الثامنة عشرة سنة ميلادية دون رضاه، يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ثلاثة أشهر، ولا تزيد على سنتين، وبغرامة لا تقل عن مائتي دينار، ولا تزيد على ألف دينار أردني، أو ما يعادلها بالعملة المتداولة قانونًا، أو بكلتا العقوبتين. 2. كل من أرسل أو نشر عن طريق الشبكة الإلكترونية، أو إحدى وسائل تكنولوجيا المعلومات، قصدًا، كل ما هو مسموع أو مقروء أو مرئي يتضمن أعمالًا إباحية لمن لم يكمل الثامنة عشرة سنة ميلادية، أو تتعلق بالاستغلال الجنسي لهم، يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنة، أو بغرامة لا تقل عن ألف دينار أردني، ولا تزيد على ثلاثة آلاف دينار أردني، أو ما يعادلها بالعملة المتداولة قانونًا، أو بكلتا العقوبتين. 3. كل من قام قصدًا باستخدام الشبكة الإلكترونية، أو إحدى وسائل تكنولوجيا المعلومات، في إنشاء، أو إعداد، أو حفظ، أو معالجة، أو عرض، أو طباعة، أو نشر، أو ترويج أنشطة أو أعمال إباحية لغايات التأثير على من لم يكمل الثامنة عشرة سنة ميلادية، أو من هو من ذوي الإعاقة، يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنتين، أو بغرامة لا تقل عن ألف دينار، ولا تزيد على ثلاثة آلاف دينار أردني، أو ما يعادلها بالعملة المتداولة، أو بكلتا العقوبتين.

[6] قرار بقانون رقم (10) لسنة 2018 بشأن الجرائم الإلكترونية.

[7] أحمد ضرغام، التحرش الجنسي الإلكتروني بالسيدات، ورقة بحثية في إطار دراسة مادة علم الإجرام والعقاب، كلية الحقوق-جامعة الإسكندرية، 2018، 13.

[8] مقابلة شخصية مع (أ. ط) امرأة ناجية من التحرش والابتزاز الجنسي عبر الإنترنت - فضلت عدم الكشف عن اسمها، 18/9/2021.

[9] رفع وعي النساء بحقوقهن الرقمية يحميهن من التعرض للابتزاز الإلكتروني، وكالة وطن للأنباء، 30/6/2021: bit.ly/3ux32zJ

[10] إستراتيجية تعزيز العدالة والمساواة بين الجنسين في إطار خطة التنمية الوطنية (2017-2022)، وزارة شؤون المرأة الفلسطينية، 2017: https://bit.ly/3j2tP2P

[11] المصدر السابق.

[12] المصدر السابق.

[13] الإستراتيجية الوطنية لقطاع العدالة وسيادة القانون (2017-2022)، وزارة العدل الفلسطينية، 2017: bit.ly/3wg2n6q

[14] مبادئ توجيهية لواضعي السياسات بشأن حماية الأطفال على الإنترنت 2020، الاتحاد الدولي للاتصالات، 2020.

[15] قانون رقم (3) لسنة 1996 بشأن الاتصالات السلكية واللاسلكية.

[16] مليون مستخدم للشرائح الإسرائيلية بالضفة، الاقتصادي، 25/9/2018: bit.ly/3DMT01z

[17] مقابلة هاتفية مع تهاني قاسم، منسقة مركز حياة للحماية وتمكين النساء والعائلات، غزة، 4/11/2021.

[18] مرصد "حر" ... لأن للفلسطينيين الحق في "فضاء رقمي آمن وعادل"، رصيف 22، 4/11/2021: bit.ly/2ZYqFGw

[19] شهرزاد عودة. العنف الجندري ضد الفلسطينيات، مصدر سابق.

قرارات سعيّد في تونس .. نظام رئاسي وانتخابات جديدة؟

 قرارات سعيّد في تونس .. نظام رئاسي وانتخابات جديدة؟

تأتي هذه الورقة ضمن إنتاج المشاركين/ات في برنامج "التفكير الاستراتيجي وإعداد السياسات" - الدورة السابعة، الذي ينفذه مركز مسارات بالتعاون مع الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي.

مقدّمة

كلّف الرئيس التونسي قيس سعيّد، يوم 29 أيلول/سبتمبر 2021، نجلاء بودن بتشكيل حكومة جديدة، لتكون أول امرأة في تاريخ تونس تتولى هذا المنصب؛ وذلك بعد سلسلة قرارات أصدرها الرئيس بعد تعمق الأزمة الصحية والاقتصادية والسياسية في البلاد حتى خرجت الاحتجاجات إلى الشارع.

لقد تراجعت الاحتجاجات على قرارات سعيّد، وتزايدت شعبيته على حساب حركة النهضة، حيث أظهرت نتائج استطلاع أنجزته مؤسسة "سيغما كونساي" لسبر الآراء، وجريدة المغرب اليومية، في 19 أيلول/سبتمبر 2021، "حيازة سعيد على 90% من نوايا التصويت، في حين تراجعت شعبية "النهضة" إلى نسب غير مسبوقة.[1]

وحصل سعيّد على دعم عربي ودولي لقراراته ولأهمية وجود مسار سياسي جديد، ودعم شعبي، وبخاصة بعد ملاحقة ما يعتقد على نحو واسع، أنّهم من المرتشين والفاسدين.

من المتوقع استقرار الحكومة، إذ يتضح من تكليف نجلاء بودن تشكيلها، أنها ستكون حكومة كفاءات (غير حزبية)، وستُدعم من رئاسة الجمهورية؛ كون الرئيس من شكلها، وسيتحمل وزر النجاح أو الفشل، ويبدو السيناريو الأرجح تعزز صلاحيات الرئيس، وتعزيز النظام الرئاسي، وقبول مختلف أطراف المشهد السياسي بالاتجاه نحو مرحلة جديدة تتضمن انتخابات تديرها حكومة بودن.

قرارات سعيّد ودوافع الحدث

أصدر الرئيس سعيد مرسومًا رئاسيًا، في 25 تموز/يوليو 2021، بإعفاء كلٍّ من هشام مشيشي رئيس الحكومة، وإبراهيم البرتاجي وزير الدفاع، إضافة إلى حسناء بن سليمان وزيرة العدل من مهامهم في الحكومة، وتجميد البرلمان، مع رفع الحصانة عن النواب.[2]

تلى ذلك عدد من المراسيم، حيث صدر في 22 أيلول/سبتمبر 2021، مرسوم يقضي بمواصلة رفع الحصانة البرلمانية عن جميع النواب، وإيقاف الامتيازات المسندة إلهم، مع إيقاف التدابير الخاصة بالسلطتين التشريعية والتنفيذية، إضافة إلى مواصلة العمل بتوطئة الدستور، وبجميع الأحكام الدستورية التي لا تتعارض مع هذه التدابير الاستثنائية، إضافة إلى إلغاء الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين.[3]

حصلت القرارات على دعم الجيش، حيث بدأ بمحاصرة مقر البرلمان ونشر الدبابات مع صدور القرار وصولًا إلى إقالة الحكومة، ثم منع السفر لعدد من المسؤولين في الحكومة السابقة المدعومة من حركة النهضة، حيث طالت الإقالات وزراء ومحافظين بعضهم تابعون للحركة.[4]

تباينت آراء الأحزاب التونسية إزاء قرارات الرئيس، حيث اعتبرت حركة النهضة، "أن الإجراءات الاستثنائية التي أعلن عنها رئيس الجمهورية غير دستوريّة، وتمثل انقلابًا على الدستور والمؤسسات"، واستمرت المطالبات بالعدول عن القرار.[5]

في المقابل، ساندت حركة الشعب، قرارات سعيّد، معتبرة إياها "طريقًا لتصحيح مسار الثورة الذي انتهكته القوى المضادة لها، وعلى رأسها حركة النهضة والمنظومة الحاكمة برمتها".[6] ثم لاحقًا تبنى الموقف نفسه الحزب الوطني الديمقراطي الاشتراكي، والتيار الشعبي، وحركة تونس إلى الأمام، فقد اعتبرت جميعها قرارات الرئيس "تعبيرًا عن إرادة الشعب" وخطوة مهمة في اتّجاه بناء تونس الجديدة، وتصحيح المسار الثّوري، وأنّها "تفتح أفقًا سياسيًا أمام الشعب التونسي لاسترجاع وطنه".[7]

وفي خطوة مفاجئة، قدم 113 قياديًا من النهضة استقالتهم، في 25 أيلول/سبتمبر 2021، حيث نقلت الإذاعة التونسية عن الأعضاء المستقيلين تشديدهم على أن "السبب المباشر في الاستقالة الجماعية اعترافهم بالفشل في إصلاح الحزب من الداخل، والإقرار بتحمّل القيادة الحالية المسؤولية الكاملة لما وصلت إليه الحركة من عزلة في الساحة الوطنية".[8] هذا القرار أو الانقسام في حركة النهضة شكّل انتصارًا ضمنيًّا لقرارات الرئيس التونسي.

سياقات الأزمة

لم تكن القرارات الرئاسية، منفصلة عن سياقات الأزمة السياسية التي تمرّ بها تونس منذ سنتين، فإثر الانتخابات التشريعية والرئاسية التي جرت في 2019، والتي جاءت بسعيّد رئيسًا للجمهورية ومنحت حركة النهضة 52 مقعدًا من إجمالي عدد المقاعد البالغ 217 مقعدًا لتشكل أكبر كتلة في البرلمان، لكنها مع بعض التحالفات تشكل أغلبية في البرلمان، بدأت تظهر أزمات متلاحقة، وبخاصة مع وجود برلمان "متشظٍّ" يسهم فيه اثنا عشر حزبًا وقائمة.

ومنحت حكومة المشيشي الثقة، في 2 أيلول/سبتمبر 2020، بواقع 134 صوتًا من أصل 217، ورفض 66 صوتًا، وعدم تصويت 17؛ أي إن تصويت النهضة (49 صوتًا) لها، كان حاسمًا.[9]

برز الخلاف حول الصلاحيات بين رئيس الجمهورية ومجلس النواب والحكومة، وتعمّقت الأزمة بين سعيّد والبرلمان، إثر التعديلات الوزارية التي أجراها المشيشي في كانون الثاني/يناير 2021 عندما حاول استبعاد وزيري الداخلية والصحة، وجلب وزراء موالين لحركة النهضة، ما قوبل بالرفض الشديد من الرئيس سعيد، ولم يسمح لهم بأداء اليمين الدستورية أمامه.[11]

كرّس سعيّد مقاطعته للحكومة ومجلس النواب برفض التصديق على قانون تعديل انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية الذي أجازه مجلس النواب نفسُه بأغلبية، وأعلن نفسه في 18 نيسان/أبريل 2021 قائدًا أعلى للقوات المسلحة المدنية والجيش.

رافق كل ذلك انهيار الوضع الاقتصادي، وارتفاع معدلات الإصابة بفيروس كورونا على نحو كبير، كشف أزمة صحية، ما زاد من حدة الاحتقان. وبدأت الحراكات بالنزول إلى الشارع، حيث استهداف محتجون مقرات حركة النهضة في عدد من المدن، لأنها الكتلة الأكبر في البرلمان، وأصبحت موجة الاحتجاجات هي الأكبر في السنوات الأخيرة.[12]

مع هذه الأزمات، انهار القطاع السياحي أيضًا، وتراجعت عوائد السياحة بنسبة 74% عن معدلاتها الطبيعية، ما أدى إلى تفشي البطالة[13]، لتصل إلى 17.4% في الربع الرابع من العام 2020. ومع تزايد الاحتجاجات الشعبية المطالبة بالتشغيل والتنمية، اقترب المشهد إلى ما حدث خلال السنوات الأولى لثورة 2011.[14]

المرجعية القانونية وطبيعة النظام السياسي

أدى غياب المحكمة الدستورية إلى غياب دورها القضائي في الفصل بين السلطات الثلاث، والبت في النصوص المُتنازع بشأنها، لا سيما في ظل اختلاف تأويل النصوص القانونية ومحاولات بعض الأطراف كحركة النهضة، كونها أكبر كتلة بالبرلمان، أخذ مزيد من الصلاحيات على المستويين الداخلي والخارجي.[15] هذا، فضلًا عن مشروع "قانون الطوارئ الصحية" الذي أثار جدلًا وإشكالية جديدة بين رئيس الحكومة والرئيس حول مدى احترام الدستور والصلاحيات المخولة لكل منهما فيما يخص إعلان حالة الطوارئ، حيث ينص المشروع على أن يتم إعلان حالة الطوارئ الصحية بمقتضى أمر حكومي، وباقتراح من وزيري الداخلية والصحة، رغم أن حالة الطوارئ العامة تدخل وفقًا للدستور ضمن اختصاصات رئيس الجمهورية.[16]

أعلن المتحدث باسم النيابة العامة التونسية، يوم 6 آب/أغسطس 2021، قرارات بمنع السفر لعدد من المسؤولين، وجاء ذلك بعد إقالات طالت وزراء ومحافظين تابعين لحركة النهضة.[17]

في ظل غياب المعلومات حول الجهة الداعمة للاحتجاجات، أعلنت العديد من الجهات عدم مسؤوليتها عنها، وتوالت اتهامات لها من قبل حركة النهضة، التي زعمت وقوف "عصابات إجرامية" مدعومة من أطراف خارجية بهدف "زعزعة استقرار البلاد وإثارة الفوضى لصالح أجندات خارجية تسعى إلى الإطاحة بـالمسار الديمقراطي"، كما اتّهمت بعض الأطراف المُناصرة للرئيس قيس سعيّد، وعلى رأسهم عبير موسى رئيس الحزب الدستوري الحر، الحاصل على 17 مقعدًا في البرلمان، بالوقوف وراء تلك الاحتجاجات.[18]

يفتح تعطيل الرئيس الحكومة والبرلمان، ووقف تشكيل المحكمة الدستورية، الحديث حول شكل النظام السياسي في تونس: هل هو نظام رئاسي أم نظام برلماني؟ وبناء على المعطيات، واستنادًا إلى القرارات المتخذة، فإن النظام يتجه نحو نظام رئاسي تكون فيه كل السلطات بيد الرئيس، علمًا أن تونس ونظام الحكم فيها يندرج ضمن النظام الجمهوري، ولكن بعد الاستقلال سنة 1956 وحتى سنة 2011، كان النظام في تونس ديكتاتوريًا، وشهد رئيسين هما الحبيب بورقيبة لمدة 30 سنة، ثم زين العابدين بن علي لـ23 سنة، وبعد الثورة التونسية في 2011، بدأت تونس انتقالها الديمقراطي واستمرار العملية الديمقراطية، وصولًا إلى الانتخابات الرئاسية والبرلمانية وفق نظام جمهوري ديمقراطي تشاركي في إطار دولة مدنية عبر التداول السلمي للحكم بواسطة الانتخابات، وعلى مبدأ الفصل بين السلطات والتوازن بينها حسب الدستور المقر العام 2014.

بعد مرور ما يقارب الشهرين على "تفجّر" الأزمة، أعلن الرئيس سعيد، في 21 آب/أغسطس 2021، عن نية جماعات إسلامية اغتياله بعد القبض على شخص متهم من قبل الأجهزة الأمنية، حيث دعت حركة النهضة لفتح تحقيق لدى النيابة العامة، وأكدت التزامها بقوانين الدولة، واحترام مؤسساتها، واعتماد الحوار لحل الخلافات.[19] لكن مثل هذا الإعلان يحمل في طياته مقدمات ومبررات ممكنة للحد من دور بعض الأحزاب والقوى لصالح موقع الرئيس.

الموقف العربي والدولي

انقسم الموقف الدولي والعربي بين مؤيد ومعارض للقرار. فعربيًا، عبّر رئيس المجلس الأعلى بليبيا خالد المشري عن رفضه "الانقلابات على الأجسام المنتخبة وتعطيل المسارات الديمقراطية"، كما وصف رئيس البرلمان التركي ما يحدث في تونس بـ "الانقلاب على النظام الدستوري". في حين دعت قطر إلى ضرورة تجاوز الأزمة السياسية في تونس.[20] وكانت المواقف الإماراتية والسعودية مؤيدة للرئيس التونسي.

أما دوليًا، فقد حث أنتوني بلينكن، وزير الخارجية الأمريكي ، في 29 تموز/يوليو 2021، سعيّد على التمسك بمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، وفتح باب الحوار مع مختلف الفاعلين السياسيين. ودعت فرنسا الرئيس سعيد إلى التسريع في تشكيل حكومة تقوم على تلبية تطلعات الشعب التونسي، بينما اعتبرت ألمانيا أن ما يحدث في تونس ليس انقلابًا، مشددة على ضرورة الحفاظ على القانون الدستوري وتنفيذه، فيما دعت الخارجية الروسية إلى حل التناقضات الداخلية في تونس في إطار القانون.[21]

وفي إطار الحديث عن تشكيل الحكومة، استقبل الرئيس التونسي وفدًا أميركيًا حمل له رسالة من الرئيس جو بايدن تتعلق بالقرارات الأخيرة، مطالبًا إياه بتعزيز الحياة الديمقراطية.[22]

أما الاتحاد الأوروبي، وفي الفترة نفسها، أكد ضرورة استئناف النشاط البرلماني في تونس، داعيًا إلى احترام الحقوق الأساسية ونبذ العنف بكل أشكاله.[23]

خاتمة

تراجعت حدة الاحتجاجات في الشارع التونسي، بل خرج التونسيون للاحتفال بالقرارات التي اتخذها سعيّد، وبخاصة التي تتعلق بمكافحة الفساد بعد تورط بعض القضاة بقضايا فساد، ومع انخفاض أسعار بعض السلع، ومنع الاحتكار، توفرت بيئة مناسبة لسعيّد لاستكمال مساره الجديد، وبخاصة في ظل تعاون الجيش معه، كما سلف ذكره منذ لحظات صدور القرار المفاجئ.

على صعيد حركة النهضة، من المحتمل، وحسب المعطيات، أن تتم محاسبة من يتم إثبات تهم فساد ضدهم من النيابة العامة، أما بالنسبة لأنصار حزب النهضة، فكان هناك تهديد بالنزول إلى الشارع، ولم ينزل أحد، ولكن من المحتمل أن الحزب استفاد من تجربة مصر وتراجع عن موقفه خوفًا من تصاعد الأمور وخروجها عن السيطرة، أو خشية حدوث اقتتال داخلي، وبخاصة أنّه، وكما سلف أعلاه، لم يبق لحركة النهضة سوى دعم ليبي وتركي، والأهم أنّ الحركة باتت تعاني انقسامًا داخليًا، والأحزاب التي رفضت قرارات سعيّد تراجعت تدريجيًا ودعمت مسار التسوية والقرارات الرئاسية.

على صعيد النظام السياسي التونسي استنادًا إلى الدستور، يكون النظام جمهوريًا، ويتم التعاون بين رئيس الجمهورية والحكومة في إدارة شؤون الدولة. ولكن بعد جملة القرارات السابق ذكرها، فان آراء المفكرين والسياسيين التونسيين ترجح أن النظام السياسي ذاهب تجاه نظام رئاسي، يكون فيه الرئيس صاحب القرار الأول والأخير في إدارة شؤون البلاد.

رحبت غالبية المنظمات الوطنية والأحزاب، وبخاصة الاتحاد العام للشغل، والاتحاد العام التونسي، والاتحاد العام للمرأة التونسية، والأحزاب التي دعمت المسار السياسي الجديد، بحكومة بودن، ولم تصدر أي بيانات من حزب النهضة حول الحكومة.[24]

بناء على كل ما سبق، فإنّ احتمالية نشوء نظام سياسي جديد أقرب للنظام الرئاسي، وتشكيل حكومة انتقالية لا تشمل حركة النهضة، وتكون حكومة كفاءات، تبدو السيناريو الأبرز، بحيث تتولى حكومة بودن الإشراف على انتخابات جديدة. ومن المهم الإشارة إلى أن الحكومة السابقة جاءت بانتخابات، ولكن هذه الحكومة سيتحمل سعيّد وزر فشلها في حال أخفقت، كونه قرر تعيينها.

الهوامش

** ما يرد في هذه الورقة من آراء تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعكس بالضرورة موقف مركز مسارات.

[1] قيس سعيّد .. شعبية "في السماء" تسهل خطوات تونس المقبلة، سكاي نيوز عربية، 19/9/2021: cutt.us/xEwUc

[2] رئيس الجمهورية يصدر أمرًا رئاسيًا يقرر من خلاله إعفاء رئيس الحكومة ووزير الدفاع الوطني والعدل بالنيابة، صفحة الرئاسة التونسية على فيسبوك، 25/7/2021: cutt.us/gnnI5

[3] استمرار التدابير الاستثنائية في تونس، صفحة الرئاسة التونسية على فيسبوك، 22/9/2021: cutt.us/gJ6yp

[4] منع مسؤولين من السفر .. النهضة تنفي تلقي أموال من الخارج ودعوات متصاعدة بتونس لتعيين رئيس حكومة جديد، الجزيرة نت، 6/8/2021: cutt.us/I8OGN

[5] الأزمة السياسية/الدستورية في تونس: حيثياتها وآفاقها، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 27/4/2021: cutt.us/GWPTj

[6] حركة الشعب تساند قرارات قيس سعيّد، "تونس كوب"، 27/7/2021: cutt.us/0fh2G

[7] موقف الأحزاب التونسية المختلفة من قرارات الرئيس قيس سعيد؟، تي آر تي عربي، 28/7/2021: cutt.us/O1FSQ

[8] تونس .. استقالات جماعية في النهضة وأنباء عن تأسيس حزب جديد، العربية، 25/9/2021: cutt.us/Tf4KY

[9] حكومة هشام المشيشي التكنوقراط تحصل على ثقة البرلمان التونسي، بي بي سي عربي، 2/9/2020: cutt.us/KSrXv

[10] نتائج رسمية نهائية .. النهضة تتصدر الانتخابات التشريعية و"قلب تونس" ثانيًا، الجزيرة نت، 9/10/2019: cutt.us/BXRCk

[11] الأزمة السياسية/الدستورية في تونس، مصدر سابق.

[12] تونس: محتجون بعدة محافظات يطالبون الحكومة بالتنحي وحل البرلمان، فرانس 24، 25/7/2021: cutt.us/vD4Ig

[13] تونس: كورونا تفتك بقطاع السياحة، سكاي نيوز عربية، 25/7/2021: bit.ly/3y60ae7

[14] تردّي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية يرهق التونسيين، العربي الجديد، 1/3/2021: cutt.us/WsFTn

[15] الرئيس التونسي: الجيش سيدير أزمة كورونا في البلاد، الشرق الأوسط، 21/7/2021:cutt.us/ZIaHn

[16] تونس تترقب انقسامًا دستوريًا على وقع "الطوارئ"، إندبندنت عربية، 18/7/2021: bit.ly/3BRZFXx

[17] تونس: حظر السفر لمسؤولين بشركة الخطوط الجوية التونسية، بوابة الأهرام، 3/8/2021: cutt.us/QFdiH

[18] آمنة فايد، تراكم الأزمات: تونس أمام اختبار سياسي صعب، مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، 26/7/2021:cutt.us/XgpaC

[19] تونس .. اعتقال شخص خطط لاستهداف سعيّد، روسيا اليوم، 21/8/2021: cutt.us/zRzMl

[20] رفض ليبي تركي ودعوة قطرية للحوار وقلق غربي من الأوضاع بتونس، الجزيرة نت، 27/7/2021: cutt.us/fVRI4

[21] هل تؤثر المواقف الدولية المتباينة على مجريات الأحداث في تونس؟، سبوتنيك عربي، 29/7/2021: cutt.us/2UOyF

[22] وفد أميركي يسلم قيس سعيد رسالة من جو بايدن، الجزيرة نت، 13/8/2021: cutt.us/dZiR0

[23] الردود تتوالى على قرارات سعيّد، الجزيرة نت، 27/7/2021: cutt.us/9Py8u

[24] تونس: ردود الفعل على تشكيل حكومة نجلاء بودن بين ترحيب ورفض وحذر، قناة فرانس 24 على اليوتيوب، 11/10/2021: bit.ly/3mVOvLy

سياسات مكافحة التحرش الجنسي عبر الإنترنت

  سياسات مكافحة التحرش الجنسي عبر الإنترنت هذه الورقة من إعداد كل من:  فؤاد بنات،  آلاء سلامة، تمار الطيبي، حمزة خضر،  نداء عوينة مقدّمة يعر...